أن تكتب لوليتا في صنعاء: جدل الروح والجسد في رواية "حُرمة" أن تكتب لوليتا في صنعاء: جدل الروح والجسد في رواية "حُرمة"

رياض حَمَّادي

صدرت رواية "حُرمة"، للروائي علي المقري، عن دار الساقي 2012. ومن وقتها تتلقى الرواية وكاتبها هجومًا ويعتبرها البعض عملًا إباحيًا. هذا الموقف واجه كُتبًا عالمية يجمعها الموضوع ذاته، فكتاب "الكاماسوترا" كان يُصنف في لندن حتى العام 1960 ضمن الأعمال الإباحية الممنوعة. والطبعة الكاملة من رواية "عشيق الليدي تشاترلي"، كانت ممنوعة في بريطانيا، وما أن انتصرت حرية التعبير بطبعها كاملة في 1960 حتى قوبلت بضجة ومحاكمات. الهجوم نفسه قوبلت به رواية "لوليتا" لفلاديمير نابوكوف، فقد مُنعت في أمريكا 1955 لتصبح بعدها كتاب الجيب عام 1958. لكن في الأخير فرضت الروايات الإيروتيكية نفسها كفن سردي لا يخلو من مضامين اجتماعية وثقافية.

حُرمة هي المرأة كما يريدها الذكر (الجسد)، و (لولا) هي المرأة كما تريدها الأنثى (الروح). 

حوار الروح والجسد

لا يعرف القارئ اسمًا للشخصية الرئيسية سوى "حُرمة" وفي هذا الاستعمال دلالة على حالة عامة أو ثقافة سائدة تعتبر المرأة "حُرمة". في هذه المجتمعات المغلقة عادة ما يخفي الظاهر باطنًا مغايرًا أو مخالفًا تحاول الرواية أن تسبر غوره.

شخصيتا "حُرمة" وأختها "لولا" محوريتان في الرواية. وفي تعاملهما مع الجنس والمجتمع نراهما عكس بعضهما، لكنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. تعاني "حُرمة" من الكبت الجنسي. هي في الظاهر تلك المرأة التي نراها ونتعامل معها كل يوم، امرأة مستورة الحال والجسد، لكنها تُخفي وجهًا آخر يظهر جليًا في شخصية أختها "لولا". حُرمة هي المرأة كما يريدها الذكر (الجسد)، و (لولا) هي المرأة كما تريدها الأنثى (الروح).

خلافًا لأختها ولوظيفتها في اللغة تمارس "لولا" دورًا لا يستجيب للتوبيخ ولا يستسلم للندم ولا يحن للماضي. تتمرد على معنى اسمها في الإسبانية LOLA، الذي يعنى الأحزان والأسى، فتصدح بضحكاتها الصاخبة التي لا تعكس بالضرورة سعادتها بقدر ما تعكس تمردها على أعراف وتقاليد المجتمع. لا ننسى هنا أن اسم "لولا" هو أحد أسماء "لوليتا" عند فلاديمير نابوكوف في روايته الشهيرة "لوليتا" التي تشترك مع رواية "حرمة" في موضوع الجنس. مثل "لوليتا"، تحاول "لولا"- بتمردها على الواقع ولو سرًا- الفرار من عبودية الواقع المفروض عليها، بالبحث عن جيوب صغيرة للحرية. الحرية إذًا هي موضوع الرواية وما الجنس سوى مظهر لجوهر الحرية أو عرض لمرض الكبت.

يقول كارلوس ليسكانو "إن على رواية ما ألاّ تقدم حكاية فحسب، وإنما أن تقترح ما هو جديد في فن الرواية"، ويضيف في مكان آخر من كتابه "الكاتب والآخر" إن "الأدب اليوم هو الواقع". فإذا كان المقري قد التزم بعنصر الواقعية في هذه الرواية فما هو جديده؟

"عندما أهداها جارها سهيل أغنية (سلوا قلبي) لأم كلثوم، لم تسمعها لاعتقادها أن الغناء حرام. وحين سمعتها بعد مضي سنوات، اكتشفت أنها أغنية مديح للنبي محمد".

المقطع السابق من الرواية يصلح وصفًا للرواية ذاتها، فقد أُسيء تقديرها كما يساء تقدير الغناء في المثال المقتبس أعلاه. أرى أن مضمون الرواية وجديدها هو الانفصام بين الحياة في السر والحياة في العلن، بين الظاهر والباطن. التعبير عن هذا الفصام يتم من خلال تقنية سردية هي الانتقال من اقتباس أبيات من قصيدة "سلوا قلبي" -القصيدة الروحية في مديح النبي- إلى سرد مشاهد الجنس. محاولة المزج بين الروح والجسد أو جدلهما سرديًا هو الجديد، هذه النقلات تُظهر الانفصام بين الروح المبثوثة في أبيات القصيدة/الأغنية، وحياة الجسد، المبثوثة في المشاهد الجنسية عبر أشرطة الجنس وأحاديث "لولا". هذا التنقل يشير من جهة أخرى إلى وحدة الروح والجسد، تلك الوحدة التي أصابتها تقاليد المجتمع في مقتل وحوّلت ما هو طبيعي إلى حرام، والمرأة إلى "حُرمة".

مثل "لوليتا"، تحاول "لولا"- بتمردها على الواقع ولو سرًا- الفرار من عبودية الواقع المفروض عليها، بالبحث عن جيوب صغيرة للحرية. الحرية إذًا هي موضوع الرواية وما الجنس سوى مظهر لجوهر الحرية أو عرض لمرض الكبت. 

تحولات ومصائر

النقلة المعرفية التي أحدثتها "حرمة"- في فهمها لمدلول أغنية "سلوا قلبي"- تتخذ شكلًا آخر أو بعدًا موازيًا يتمثل في النقلة من السرد الجسدي إلى المناجاة الروحية لأبيات القصيدة/الأغنية. ثمة نقلة أخرى في سياق تاريخ السرد الإيروتيكي- تختبره الرواية في مجتمعنا بعد اختباره في مجتمعات أخرى- من اعتبار الجنس المكتوب عملًا إباحيًا، في المجتمعات المنغلقة، إلى اعتباره عملًا فنيًا، في المجتمعات المنفتحة.

نقلة أخرى، أو تحوُّل- اعتبرته الكاتبة التونسية سهام القشوري مفاجِئا وغير منطقي- وهو تحوُّل عبدالرقيب- أخ "حُرمة" و "لولا"- من الماركسية والتحرر والانفتاح، عندما كان عازبًا، إلى الجماعات الإسلامية والتطرف والغيرة، بعد زواجه من نورا.

أرى أن هذا التحول- أو التطور في الشخصية- لم يكن مفاجئًا بدلالة أولى نستمدها من اسم "رقيب" الذي مهّد لهذا التحول. كما أنها نقلة مفهومة في سياق حياة المجتمعات العربية المحافظة، وتكاد تتكرر مع حياة معظم الشباب قبل وبعد الزواج. تشير هذه النقلة أيضًا إلى انقلاب في الفكر المصاحب للملكية في عملية اختزال للفكر البشري الذي حوله الاستقرار والزواج إلى فرد غيور على ملكيته الخاصة- الزوجة والأرض.

التحولات النفسية قد تكون مفاجئة، لكنها قابلة للفهم في سياق العلاقة التي تربط الفرد بالمجتمع والبيئة المحيطة وخصوصًا العلاقة التي تربط بين الجنسين، في مجتمع مكبوت، والتي لها أكبر تأثير في عملية التحولات النفسية. مر عبدالرقيب بثلاث تحولات لعبت فيها المرأة- في جانبها الجنسي- الدور الرئيس: التحول الأول من الماركسية والانفتاح إلى الفكر الإسلامي والاجتماعي المحافظ، بعد زواجه من نورا، والتحول الثاني إلى الفكر الديني المتطرف بعد خيانة نورا وخلعها له، والتحول الثالث إلى الفكر الدنيوي المعتدل بعد زواجه من الشيشانية فالنتينا.

وهكذا تلعب المرأة في الرواية دور الـ "مايسترو"؛ بها يتزن إيقاع لحن الحياة، إذا اعتدلت النظرة إليها وقوبلت بالثقة، ويكون اللحن "نشازًا" حينما تختل هذه المعادلة وتُعامل المرأة كـ "حُرمة" أو كجسد مفعول به فقط. وهي معادلة يمكن النظر في نتائجها من خلال مصائر الشخصيات في الرواية.

مضمون الرواية هو التناقض بين الحياة في السر والحياة في العلن، بين الظاهر والباطن. التعبير عن هذا الانفصام يتم من خلال تقنية سردية هي الانتقال من اقتباس أبيات من قصيدة "سلوا قلبي" -القصيدة الروحية في مديح النبي- إلى سرد مشاهد الجنس.

مصائر الكبت الجنسي أو مصائبه حلت بكل شخوص الرواية رجالًا ونساءً على حدٍ سواء: "لولا" فقدت بكارتها فحاولت تعويضها بأخرى مصطنعة، "نورا" تبحث عن الإشباع الجنسي عند رجل غير زوجها. و "حُرمة" (العذراء) حملت بعد لقاء جنسي عابر لا يمت بصلة لما سمعته وشاهدته من أفلام جنسية، في دلالة على الانفصام بين الحياة المتخيلة، أو المُشاهَدة في الأفلام، وبين الحياة الواقعية. عبدالرقيب غير متوافق جنسيًا مع زوجته نورا فتطلقه بعد افتضاح علاقتها الجنسية بآخر. أبو عبدالله زوج "حرمة" عاجز جنسيًا، مع ذلك يزوجه شيوخه بأخرى هندية مرتبطة بعلاقة جنسية مع زوجها الهندي السابق. هذا الفشل في باب جهاد الجسد يدفع عبدالرقيب وأبو عبدالله إلى الهروب، أو السعي نحو النجاح في باب الجهاد بالنفس في أفغانستان والشيشان. وفي هذا التحول أو الهروب دلالة تشير إلى وجود دافع آخر للجهاد يشغل بال الشباب.

تلعب المرأة في الرواية دور الـ "مايسترو"؛ بها يتزن إيقاع الحياة، إذا اعتدلت النظرة إليها وقوبلت بالثقة، ويكون اللحن "نشازًا" حينما تختل هذه المعادلة وتُعامل المرأة كـ "حُرمة" أو كجسد مفعول به فقط.

الشيخ "أبو السرور" يتزوج "حرمة" لكنه يفشل جنسيا فيطلقها في اليوم نفسه، وكذلك يفشل معها جارها سهيل. أما أبوها فيموت بعد مشاهدة ابنته "لولا" مع أحد الشباب في غرفتها. وتوجد شكوك في احتمال أن الأب هو الرجل الذي ظهر في مقطع الفيديو مع نورا زوجة ابنه عبدالرقيب. عواقب الكبت الجنسي تطال الجامعة الإسلامية حين يمارس الشيخ ألعابًا جنسية أمام كاميرا تنقل محاضرته لطالبات في قاعة أخرى، وهو ما لم يكن ليحدث لو أن الأستاذ الجامعي يحاضر طالباته كما تفعل بقية الجامعات.

مصير الفشل هذا يلاحق الجميع في دلالة على أن الانغلاق يولد الكثير من المشاكل. يقابل هذه القاعدة المتفشية في الرواية حالة ناجحة للانفتاح متمثلة بفالنتينا زوجة عبدالرقيب الثانية من أصل شيشاني ومن أبوين ملحدين، فمعها "وُلِد عبدالرقيب للمرة الثالثة"، ومعها يستعيد ثقته بالمرأة بعد أن فقدها إثر خيانة نورا.

لم تتوقف الرواية عند روح باريس كمكان، وتوقفت عند جسدها ممثلًا في الفن التشكيلي، أحد أبواب الروح السبعة، هناك تفتح الرواية صفحة أخرى من كتاب فن الجنس. في باريس يحضر الجنس لكن ليس كهاجس أو كرغبة، وإنما كفن.

الفن والجنس

يحتل موضوع الكبت الجنسي الأهمية لذلك يتضاءل الإحساس بالمكان في الرواية مثلما تبهت ملامح الشخصيات. باريس هي أحد الأمكنة التي لم تتوقف الرواية عند روحها كمكان، وتوقفت عند جسدها ممثلًا في الفن التشكيلي، أحد أبواب الروح السبعة، هناك تفتح الرواية صفحة أخرى من كتاب فن الجنس. في باريس يحضر الجنس لكن ليس كهاجس أو كرغبة، وإنما كفن، من خلال الفنان التشكيلي الذي يعقد مع "لولا" اتفاقًا على رسمها عارية. يدور بينهما حوار صامت نكتشف معه رؤيتين مختلفتين للجسد: رؤية "لولا" الشبقية المحكومة بمجتمع مكبوت، ورؤية الرسام لها كموديل فني. ينتهي الحوار بإغوائها له في نهاية غير سعيدة لاكتشافه غشاء بكارتها المزيف.

ثورات الكبت الجنسي ناعمة لا تنفجر في وجه المجتمع لأنها تجد متنفسًا للتعبير عنها من خلال العادات الجنسية غير السرية وغير المعلنة في الوقت نفسه. السرية هي القانون غير المكتوب الساري في المجتمعات المكبوتة جنسيًا. وكأن في اشتراط أربعة شهود يرون "الميل في المكحلة" مادة من مواد هذا القانون. حيث يمكن للمجتمع أن يبقى طاهرًا طالما يمارس ما يراه "رذيلة" أو "زنا" أو "فساد" في الخفاء. وكأن تعريف "الفساد" ليس ذلك الممارس سرًا أو الكامن في خلفية الصورة أو بين السطور، بل ذلك الظاهر في مقدمة الصورة والمعبر عنه بالصوت والصورة والكلمة!

وهكذا تدور كاميرا الجنس "المحرم"، من كاميرا المجتمع الخفية التي تراقب ممارسة الجنس بين عاشقين على سطح منزل، ليصبح حديث المجتمع، إلى كاميرا الجامعة المعدة كوسيلة للتواصل بين الأستاذ الشيخ وطالباته، حيث تهيئ له ظروف الانفصال في المكان ممارسة ألعاب جنسية لم يكن له أن يمارسها لو أنه يعطي دروسه للطالبات وجهًا لوجه كبقية الجامعات حول العالم.

ثورات الكبت الجنسي ناعمة لا تنفجر في وجه المجتمع لأنها تجد متنفسًا للتعبير عنها من خلال العادات الجنسية غير السرية وغير المعلنة في الوقت نفسه. السرية هي القانون غير المكتوب الساري في المجتمعات المكبوتة جنسيًا.

تنتهي الرواية بـ "حرمة" وهي لا تعرف وجهتها، لا تعرف حتى إن كانت ستصل إلى أي مكان، تأكل من المزابل وتنام فيها، تنزع عن جسدها خمارها، عباءتها، ذهبها، حمالة نهديها، سروالها وقميصها، وترميها إلى كلب طيب ليشمها وتسير عارية لتمارس الحرية مع الريح.

نزع الثياب أو التعري هو شكل من أشكال الجنون، وهو جنون مضاعف عندما تقوم به امرأة، وفقًا للثقافة السائدة. هذه الخاتمة قد تعبر عن غياب النور في نهاية النفق المظلم أكثر مما تعبر عن حالة فقدان للعقل. الجنون هو أن ترفض الحياة كما يفرضها الآخرون. هو جنون، يخلو في الظاهر من وجود هدف، لكن جوهره يعبر عن حالة تمرد. وهكذا يمكن أن نقرأ "حرمة" بهذيان نهايتها المفتوحة. كما "يمكن أن تُقرأ بوصفها كتابة حول استحالة إنهاء رواية"، لأنها ليست حكاية تقليدية، وإنما حكاية حياة لم تنتهِ أو بالأحرى لم تبدأ بعد. لسان حالها ما كتبه كارلوس ليسكانو: "لو كنت أعرف إلى أين يُفضي (ما أفعله) لما كتبته".

تعبر الخاتمة عن غياب النور في نهاية النفق المظلم أكثر مما تعبر عن حالة فقدان للعقل. الجنون هو أن ترفض الحياة كما يفرضها الآخرون. هو جنون، يخلو في الظاهر من وجود هدف، لكن جوهره يعبر عن حالة تمرد.

في اليمن "لوليتا" ما زالت "حُرمة"، وكلتاهما ضحيتان، وأن تكتب عنها يعني أن تكتب عن حياة لم تبدأ بعد. ولا نعلم كم من الوقت يلزم ليكتشف القارئ أن رواية "حرمة" ليست عملًا إباحيًا، وإنما هي جدلٌ بين الروح والجسد يتخذ شكلًا من أشكال الصراع بحكم المجتمع المكبوت.

ديسمبر 2014